عن الأعراف القبلية و”قواعد السبعين” وزيارات إلى الجوف وصعدة
أربعون عاماً على رحيل عبدالسلام الدميني وأخويه (3)
يحيى منصور أبو أُصبع:
كان الدكتور عبدالسلام الدميني شغوفاً بهذه المناطق [المناطق القبلية في شمال الشمال]، يدون ويكتب، لا يترك شيئاً؛ أسماء الجبال والوديان، وأسماء كل قبيلة وأفخاذها وأنواعها في المنطقة، والوجود السعودي، ومن هم مع السعودية، ويبحث عن الشباب، وينصحني بأن أسهم بأخذ أكبر عدد من الشباب صغار السن للدراسة في عدن، وفي جميع التخصصات، وفعلاً عملنا، أنا وإياه، على بعث عدد كبير للدراسة في المدارس والجامعات والكليات العسكرية في الجنوب، ومنح خارجية، وأيضاً مع الفلسطينيين من خلال لقائنا مع مكاتبهم في عدن، هذا غير المنح التي كانت الدولة توفرها في الجنوب لأبناء القبائل وبدون حساب.. خاصة صالح مصلح قاسم، وبالذات إلى الخارج، كان يُقَدِّم الشماليين، وخاصةً أبناء شمال الشمال، على أبناء الجنوب. وقد أصدر صالح مصلح توجيهات إلى جميع الكليات والمدارس بقبولهم بأوضاعهم التعليمية المنعدمة أحياناً.. وكانوا في الكليات يجعلون سنة تحضيرية ثم يدخلون الكليات.
رتَّبتُ له جولة أخرى في أنحاء الجوف، وبواسطة الأخ المناضل محمد عرفج بن حليمان، وهو صديق ورفيق عزيز إلى قلبي ووجداني، وكان محسوباً على الأخ مجاهد القهالي حتى وفاته بداية هذا العام 2020م. وهذا محمد عرفج بن حليمان كان الوحيد الجمهوري، ومع الثورة، في طول الجوف وعرضها، وكان المصريون يستفيدون منه غاية الفائدة عند القصف بالطيران، وكان مرشدهم الوحيد والفاهم جداً. كما أنه رافقني أثناء تحملي مسؤولية الجبهة الوطنية والحزب في محافظة صعدة والجوف، ولم أكن أقطع شيئاً، في نشاطنا وعملنا وسط القبائل، إلا بمشورته، وبعد الرجوع إليه.. هو لطيف المعشر لا طمع عنده ولا فيد، يحب بلاده ويسعى لتعليم أبناء الجوف بكل الوسائل.
أمضيت أنا وعبدالسلام ليلة في منزل محمد عرفج بن حليمان، في مديرية المتون، وكذلك الشيخ العزي بن عبدان، وهو ابن عمه، ومن أوفى الرجال. وظل عبدالسلام الدميني يدون ويسأل والرجل يجيب.. حتى ذهبت أنا إلى النوم، وظل عبدالسلام وصاحبه حتى الصباح.
في اليوم التالي، وبدون مظاهر ولا بهرجة، ذهبنا إلى منزل الشيخ محمد الراعي، من مشائخ “الشُّولان”، وكان عبدالسلام حريصاً جداً على معرفة الشيخ علي العكيمي، والد محافظ الجوف اليوم، أمين العكيمي، لما كان يسمع عن هذا الرجل الأسطورة، الذي لم يرتدِ قميصاً ولا حذاء، فقط إزار من الركبة إلى السرة. والشيخ هذا كان مرجعية واسعة للقبائل، ويحظى باحترام وتقدير واهتمام كل “قبائل دَهَمْ” (وقبائل دَهَمْ هم ذو حسين وذو محمد، والعَمَالِسَة، وآل سالم، وآل عمار، وبني نوف، وهمدان الجوف، وآل سليمان).. وتعد مدينة الحزم، عاصمة محافظة الجوف، وهي مركز قبيلة همدان.
وظل الشيخ العكيمى ملكياً، ولم يعترف بالجمهورية [ولا بثورة 26 سبتمبر]، وقد أخذه محمد الراعي دون أن يفصح عن اسم عبدالسلام الدميني.
وفي اليوم الثالث، أخذنا حليمان إلى منطقة “المرهنة”، وهي من “آل شنان” (ذو حسين)، وبها وُلِدَ الإمام أحمد حميد الدين، كما قِيْل لنا، وهناك من يقول إنه وُلِدَ في “عُذَر حَاشِد”… حين كان أبوه، الإمام يحيى، في حرب مع الأتراك في “شهارة”، فهربت أمه وهي حامل إلى هذه المنطقة، والذي كان الكثيرون من رجالها يقاتلون في صف الإمام. كما أعاده الإمام يحيى، وهو طفل يافع إلى هذه المنطقة، ليتعلم لهجتها ولغتها العربية الفصحى. وكما سمعنا أن أهل هذه المنطقة يتحدثون العربية، كما كان يتحدثها آباؤهم قبل ألف سنة.. والدكتور عبدالسلام يسجل لا يكل ولا يمل.
…
وفي مرة أخرى، جاءني عبدالسلام الدميني إلى الجوف، وأنا في “قبيلة المتون” (آل عبيد بن حمد من ذي حسين.. وأحد الأثمان التي تتكون منها ذو حسين)، وأخذناه إلى “بني نوف”، والتقينا الشيخ أحمد السنتيل، وهو فاهم وواعٍ لما نريد، وأحد أهم مشائخ “بني نوف”، وكان معي بالجبهة الوطنية.. وهو من أنصار مجاهد القهالي.. وأخذنا إلى بعض المناطق الأثرية، حسب طلب الدكتور عبدالسلام، الذي جاء خصيصاً لزيارة المناطق الأثرية والمدن المَعِيْنِيَّة، وزرنا مدينة براقش، ثم مدينة معين، والبيضاء، والسوداء، وكان عبدالسلام مصدوماً من تآكل هذه المدن، بفعل عوامل التعرية وبفعل فاعل، وهو الحفر العشوائي والفوضوي من قبل بعض السكان للبحث عن الكنوز، وعن التماثيل (المنحوتات والمجسمات) وبيعها بأبخس الأثمان. وعرف عبدالسلام، في تلك الأيام، عن وجود قوى خارجية تُجَنِّد للاستيلاء على آثار البلاد، وخاصة من الجارة السعودية، وجمعيات أوروبية وإسرائيلية، وكم كان ينزعج وهو يرى الصخور الكبيرة المنحوتة والمكتوب عليها بخط المسند السبئي والحميري.. وقد جرى تكسيرها ونقلها للبناء أو التجارة.
ومن الأمور التي كانت تشغل بالنا وحاولنا، أنا وهو، الاستفسار عنها والتدقيق فيها، العلاقات الاجتماعية والعلاقات الإنتاجية، وقواعد العرف القبلي، الذي يحكم هذه المناطق لمئات السنين، والنشاط السعودي واهتماماته. وقد تساءل الدكتور عبدالسلام الدميني مع أكثر من شخص وفي مناطق قبلية مختلفة عن تلك الأمور.
…
العلاقات الاجتماعية قائمة في هذه المناطق القبلية على قرابة الدم، وكلما بعدت قرابة الدم خفت شدة الترابط. وحتى نقرب الصورة؛ مثلاً محافظة الجوف اليوم، التي تمتد حتى حدود حضرموت و”وائلة” و”حرف سُفْيَان” ومأرب، يسكنها أغلبية “قبائل دَهَمْ” (ذو محمد، ذو حسين، بني نوف، همدان الجوف، آل سليمان، والمهاشمة، والمرازيق، والأشراف الذين يتركزون في “الزاهر” و”الغيل” ويحسبون على القبلية التي يقيمون بينها).. لكن أغلبية مساحة الجوف مع “ذي حسين”، بمساحة تزيد عن 90% من الأراضي الصحراوية والحضرية من المحافظة، وتنفرد بالحدود مع السعودية، والتي تمتد من “وائلة” غرباً إلى “زمخ” و”منوخ”… مديرية صحراوية في حضرموت من الشرق.
لكن في إطار كل قبيلة هناك حدود، فمثلاً، “ذو حسين” 8 أثمان، والتاسع الحطباني؛ لكل ثمن مساحته الجغرافية وحدودها، وهو هنا يمارس الملكية العامة (المشاعية) في حدود الثُّمْن.. ويخرج من الملكية “القَرَو”، يسمونهم “البَيَّاعَة” في بعض المناطق وهم فئات الحرفيين. يُطلق على الحرفيين (جزارين، مزاينة، دواشن، نجارين، حدادين، بياعة متاجر) “القَرَو” أو “الَبَّياعَة”، وهم منوع (حليف) الأفخاذ والقبائل، عليهم السمع والطاعة، وعلى القبائل حمايتهم، مثل ما يحمون أنفسهم، بما في ذلك الدم.. و”البَيَّاعَة” أفضل حالاً من الناحية المعيشية، وهم وشبابهم أكثر انتساباً للجبهة الوطنية والحزب الاشتراكي.
أما علاقة الزواج بين القبائل في الجوف، فتقوم على الندية، فالزوج والزوجة متساويان.. الشرط الوحيد والأساسي على الزوج نحو الزوجة هو “الثوب الطويل”، أي الاحترام الشامل والكامل للزوجة، وإذا طلبت الطلاق عليه الموافقة تنفيذاً لشرط “الثوب الطويل”. ومن حيث الحالة الاقتصادية فإن الزوجة تصل بيت زوجها وهي مزودة بمؤنتها من الحبوب والفراش والأغنام، حتى لا يكون هناك هيمنة اقتصادية من الزوج على الزوجة، وهنا تتوفر الندية في العلاقات الزوجية.
والظاهرة الأخرى عدم الحديث من قريب أو بعيد عن العذرية، وعن الدم حق العذراء ليلة الدخلة، فهذه من الأمور المعيبة الحديث عنها.
تصور في الجوف لا أحد يسأل أو يعلم بمسألة دم العذراء أبداً، وحين نتحدث نحن أصحاب المناطق الأخرى عن دم العذراء يردون علينا بالشتم. كل هذا أثار في نفس الدكتور عبدالسلام الدميني مشاعر من الإعجاب والتقدير والتفكر، وقال لي إن هذه المواضيع تصلح كدراسة، أو بحث، لأخذ الدكتوراه؛ أي العلاقات الاجتماعية في المجتمعات البدوية.
…
وعن العرف القبلي، تم الترتيب على النحو الآتي:
كنا، أنا والدكتور عبدالسلام، في صنعاء، ونزلنا في بيت أخي أحمد منصور. طرح معي عبدالسلام رغبته في زيارة صعدة، وعلى وجه الخصوص “قبيلة آل عمار”، وشيخها صالح هندي دغسان، الذي تربطني (أنا) به علاقات قديمة وجديدة، وذلك كونه “مَرَاغَة دَهَمْ” (حاكم استئناف ومحكمة عليا للعرف القبلي).. فصالح هندي أحد “مَرَاغَة قبيلة دَهَمْ”، و”المَرَاغَة” الآخر هو بن ملهبة من “بني نوف”.
قُلتُ لعبدالسلام: “وهو كذلك، على شرط أن أرتب الرحلة أنا بطريقتي”. وافق، لأني لا أتهاون في المسألة الأمنية على الإطلاق. وصل بالصدفة أحد الرفاق الموثوق بهم، وهو ضابط موظف في صعدة، ويعرف صعدة والقبائل بوجه عام، وهو الرفيق الرائد، في ذلك الوقت، محمد محمد الشيبة، ابن عمي من “بَرَط”، ومن “خميس آل دمينة”. وهذا محمد الشيبة كان الحرف الأول في بناء منظمة الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، هو وناجي محسن الدميني (ابن عمه)، عام 1977م، في محافظة الجوف وعمران.
كما أن محمد الشيبة من الذين يتم الركون عليهم بأخطر المهام.. طرقت عليه المطلوب.. أخذنا، أنا وعبدالسلام الدميني، إلى صعدة. رَحَّب، ورتَّب، وتوكلنا، دون علم أحد. وصلنا عند صالح هندي دغسان، في مديرية الصفراء، وظل ليلة كاملة في نقاش هو وعبدالسلام الدميني، حول العرف القبلي وسنده الوثائقي (قواعد السبعين)؛ “فما هي قواعد السبعين؟”، يسأل عبدالسلام. الشيخ صالح هندي قال: “قواعد السبعين هي القانون العام لقبيلة دَهَمْ كلها في العرف والسلف القبلي، وقصتها اجتمع سبعون شخصية من أبناء ذو محمد في برط، قبل ثلاث مئة سنة، وكلفوا أنفسهم بوضع قواعد وأحكام ومواد ونصوص عرفية تحكم القضايا الجنائية والمدنية والشخصية والحرب والسلام.. وسميت قواعد السبعين نسبة للسبعين شخصاً الذين كتبوا وأنجزوا هذه الوثيقة العرفية النادرة والفريدة”.
يتبع..